فصل: تفسير الآيات (21- 29):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (21- 29):

{أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآَثَارًا فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ (21) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ (22) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآَيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (23) إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ (24) فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (25) وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ (26) وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ (27) وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آَلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ (28) يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ (29)}
لما خوّفهم سبحانه بأحوال الآخرة أردفه ببيان تخويفهم بأحوال الدنيا، فقال: {أَوَ لَمْ يَسِيروُاْ في الأرض فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عاقبة الذين كَانُواْ مِن قَبْلِهِمْ} أرشدهم سبحانه إلى الاعتبار بغيرهم، فإن الذين مضوا من الكفار {كَانُواْ هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً} من هؤلاء الحاضرين من الكفار، وأقوى {وَآثَاراً فِي الأرض} بما عمروا فيها من الحصون والقصور، وبما لهم من العدد والعدّة، فلما كذبوا رسلهم أهلكهم الله. وقوله: {فَيَنظُرُواْ} إما مجزوم بالعطف على يسيروا، أو منصوب بجواب الاستفهام، وقوله: {كَانُواْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً} بيان للتفاوت بين حال هؤلاء وأولئك. وقوله: {وَءاثَاراً} عطف على قوّة. قرأ الجمهور: {أشد منهم}، وقرأ ابن عامر: {أشد منكم} على الالتفات {فَأَخَذَهُمُ الله بِذُنُوبِهِمْ} أي: بسبب ذنوبهم {وَمَا كَانَ لَهُم مّنَ الله مِن وَاقٍ} أي: من دافع يدفع عنهم العذاب، وقد مرّ تفسير هذه الآية في مواضع، والإشارة بقوله: {ذلك} إلى ما تقدّم من الأخذ {بِأَنَّهُمْ كَانَت تَّأْتِيهِمْ رُسُلُهُم بالبينات} أي: بالحجج الواضحة {فَكَفَرُواْ} بما جاءوهم به {فَأَخَذَهُمُ الله إِنَّهُ قَوِىٌّ} يفعل كلّ ما يريده لا يعجزه شيء {شَدِيدُ العقاب} لمن عصاه، ولم يرجع إليه.
ثم ذكر سبحانه قصة موسى، وفرعون؛ ليعتبروا، فقال: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا موسى بئاياتنا} هي: التسع الآيات التي قد تقدّم ذكرها في غير موضع {وسلطان مُّبِينٍ} أي: حجة بينة واضحة، وهي: التوراة {إلى فِرْعَوْنَ وهامان وَقَشرُونَ فَقَالُواْ} إنه {ساحر كَذَّابٌ} أي: فيما جاء به، وخصهم بالذكر؛ لأنهم رؤساء المكذبين بموسى، ففرعون الملك، وهامان الوزير، وقارون صاحب الأموال، والكنوز {فَلَمَّا جَاءهُمْ بالحق مِنْ عِندِنَا}، وهي: معجزاته الظاهرة الواضحة {قَالُواْ اقتلوا أَبْنَاء الذين ءامَنُواْ مَعَهُ واستحيوا نِسَاءهُمْ} قال قتادة: هذا قتل غير القتل الأوّل، لأن فرعون قد كان أمسك عن قتل الولدان وقت ولادة موسى، فلما بعث الله موسى أعاد القتل على بني إسرائيل، فكان يأمر بقتل الذكور، وترك النساء، ومثل هذا قول فرعون: {سَنُقَتّلُ أَبْنَاءهُمْ وَنَسْتَحْيِى نِسَاءهُمْ} [الأعراف: 127] {وَمَا كَيْدُ الكافرين إِلاَّ في ضلال} أي: في خسران ووبال، لأنه يذهب باطلاً، ويحيق بهم ما يريده الله عزّ وجلّ.
{وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِى أَقْتُلْ موسى} إنما قال هذا؛ لأنه كان في خاصة قومه من يمنعه من قتل موسى مخافة أن ينزل بهم العذاب، والمعنى: اتركوني أقتله {وَلْيَدْعُ رَبَّهُ} الذي يزعم: أنه أرسله إلينا، فليمنعه من القتل إن قدر على ذلك، أي: لا يهولنكم ذلك، فإنه لا ربّ له حقيقة؛ بل أنا ربكم الأعلى، ثم ذكر العلة التي لأجلها أراد أن يقتله، فقال: {إِنّى أَخَافُ أَن يُبَدّلَ دِينَكُمْ} الذي أنتم عليه من عبادة غير الله، ويدخلهم في دينه الذي هو: عبادة الله وحده {أَوْ أَن يُظْهِرَ في الأرض الفساد} أي: يوقع بين الناس الخلاف، والفتنة، جعل اللعين ظهور ما دعا إليه موسى، وانتشاره في الأرض، واهتداء الناس به فساداً، وليس الفساد إلا ما هو عليه هو، ومن تابعه.
قرأ الكوفيون، ويعقوب: {أو أن يظهر} بأو التي للإبهام، والمعنى: أنه لابد من وقوع أحد الأمرين. وقرأ الباقون: {وأن يظهر} بدون ألف على معنى: وقوع الأمرين جميعاً، وقرأ نافع، وابن كثير، وأبو عمرو بفتح الياء من: {إني أخاف}، وقرأ نافع، وأبو عمرو، وحفص: {يظهر} بضم الياء، وكسر الهاء من أظهر، وفاعله ضمير موسى، والفساد نصباً على أنه مفعول به، وقرأ الباقون بفتح الياء، والهاء، ورفع الفساد على الفاعلية {وَقَالَ موسى إِنّى عُذْتُ بِرَبّى وَرَبّكُمْ مّن كُلّ مُتَكَبّرٍ لاَّ يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الحساب} قرأ أبو عمرو، وحمزة، والكسائي: {عذت} بإدغام الذال، وقرأ الباقون بالإظهار، لما هدّده فرعون بالقتل استعاذ بالله عزّ وجلّ من كلّ متعظم عن الإيمان بالله غير مؤمن بالبعث، والنشور، ويدخل فرعون في هذا العموم دخولاً أوّلياً.
{وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مّنْ ءالِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إيمانه} قال الحسن، ومقاتل، والسدّي: كان قبطياً، وهو: ابن عم فرعون، وهو الذي نجا مع موسى، وهو المراد بقوله: {وَجَاء رَجُلٌ مّنْ أَقْصَى المدينة يسعى} [القصص: 20] الآية، وقيل: كان من بني إسرائيل، ولم يكن من آل فرعون، وهو خلاف ما في الآية، وقد تمحل لذلك بأن في الآية تقديماً، وتأخيراً، والتقدير: وقال رجل مؤمن من بني إسرائيل يكتم إيمانه من آل فرعون. قال القشيري: ومن جعله إسرائيلياً، ففيه بعد، لأنه يقال: كتمه أمر كذا، ولا يقال: كتم منه كما قال سبحانه: {وَلاَ يَكْتُمُونَ الله حَدِيثاً} [النساء: 42]، وأيضاً ما كان فرعون يحتمل من بني إسرائيل مثل هذا القول.
وقد اختلف في اسم هذا الرجل، فقيل: حبيب. وقيل: حزقيل. وقيل غير ذلك، قرأ الجمهور: {رجل} بضم الجيم، وقرأ الأعمش، وعبد الوارث بسكونها، وهي: لغة تميم، ونجد، والأولى هي: الفصيحة، وقرئ بكسر الجيم و{مؤمن} صفة لرجل، و{من آل فرعون} صفة أخرى، و{يكتم إيمانه} صفة ثالثة، والاستفهام في {أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً} للإنكار، و{أَن يَقُولَ رَبّىَ الله} في موضع نصب بنزع الخافض، أي: لأن يقول، أو كراهة أن يقول، وجملة: {وَقَدْ جَاءكُمْ بالبينات مِن رَّبّكُمْ} في محل نصب على الحال، أي: والحال أنه قد جاءكم بالمعجزات الواضحات، والدلالات الظاهرات على نبوّته، وصحة رسالته، ثم تلطف لهم في الدفع عنه، فقال: {وَإِن يَكُ كاذبا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِن يَكُ صادقا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الذي يَعِدُكُمْ}، ولم يكن قوله هذا لشك منه، فإنه كان مؤمناً كما وصفه الله.
ولا يشك المؤمن، ومعنى {يُصِبْكُمْ بَعْضُ الذي يَعِدُكُمْ} أنه إذا لم يصبكم كله، فلا أقلّ من أن يصيبكم بعضه، وحذفت النون من يكن في الموضعين تخفيفاً لكثرة الاستعمال، كما قال سيبويه، وقال أبو عبيدة، وأبو الهيثم: بعض هنا بمعنى: كل، أي: يصبكم كلّ الذي يعدكم، وأنشد أبو عبيدة على هذا قول لبيد:
تراك أمكنة إذا لم أرضها ** أو يرتبط بعض النفوس حمامها

أي: كلّ النفوس، وقد اعترض عليه، وأجيب بأن البعض قد يستعمل في لغة العرب بمعنى: الكلّ كما في قول الشاعر:
قد يدرك المتأني بعض حاجته ** وقد يكون مع المستعجل الزلل

وقول الآخر:
إن الأمور إذا الأحداث دبرها ** دون الشيوخ ترى في بعضها خللا

وليس في البيتين ما يدلّ على ما زعموه، وأما بيت لبيد، فقيل: إنه أراد ببعض النفوس نفسه، ولا ضرورة تلجئ إلى حمل ما في الآية على ذلك، لأنه أراد التنزّل معهم، وإيهامهم: أنه لا يعتقد صحة نبوّته كما يفيده قوله: {يَكْتُمُ إيمانه} قال أهل المعاني: وهذا على المظاهرة في الحجاج، كأنه قال لهم: أقلّ ما يكون في صدقه أن يصيبكم بعض الذي يعدكم، وفي بعض ذلك هلاككم، فكأن الحاصل بالبعض هو الحاصل بالكل.
وقال الليث: بعض ها هنا صلة يريد يصبكم الذي يعدكم. وقيل: يصبكم هذا العذاب الذي يقوله في الدنيا، وهو بعض ما يتوعدكم به من العذاب. وقيل: إنه وعدهم بالثواب، والعقاب، فإذا كفروا أصابهم العقاب، وهو بعض ما وعدهم به {إِنَّ الله لاَ يَهْدِى مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ} هذا من تمام كلام الرجل المؤمن، وهو: احتجاج آخر ذو وجهين: أحدهما: أنه لو كان مسرفاً كذاباً لما هداه الله إلى البينات، ولا أيده بالمعجزات، وثانيهما: أنه إذا كان كذلك خذله الله، وأهلكه، فلا حاجة لكم إلى قتله، والمسرف المقيم على المعاصي المستكثر منها، والكذاب المفتري.
{ياقوم لَكُمُ الملك اليوم ظاهرين في الأرض} ذكرهم ذلك الرجل المؤمن ما هم فيه من الملك، ليشكروا الله، ولا يتمادوا في كفرهم، ومعنى {ظاهرين}: الظهور على الناس، والغلبة لهم، والاستعلاء عليهم، والأرض أرض مصر، وانتصاب {ظاهرين} على الحال {فَمَن يَنصُرُنَا مِن بَأْسِ الله إِن جَاءنَا} أي: من يمنعنا من عذابه، ويحول بيننا، وبينه عند مجيئه، وفي هذا تحذير منه لهم من نقمة الله بهم، وإنزال عذابه عليهم، فلما سمع فرعون ما قاله هذا الرجل من النصح الصحيح جاء بمراوغة يوهم بها قومه أنه لهم من النصيحة، والرعاية بمكان مكين، وأنه لا يسلك بهم إلا مسلكاً يكون فيه جلب النفع لهم، ودفع الضرّ عنهم، ولهذا قال: {مَا أُرِيكُمْ إِلاَّ مَا أرى} قال ابن زيد: أي: ما أشير عليكم إلا بما أرى لنفسي.
وقال الضحاك: ما أعلمكم إلا ما أعلم، والرؤية هنا هي القلبية لا البصرية، والمفعول الثاني هو إلا ما أرى {وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرشاد} أي: ما أهديكم بهذا الرأي إلا طريق الحقّ. قرأ الجمهور: {الرشاد} بتخفيف الشين، وقرأ معاذ بن جبل بتشديدها على أنها صيغة مبالغة كضرّاب.
وقال النحاس: هي: لحن، ولا وجه لذلك.
وقد أخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مّنْ ءالِ فِرْعَوْنَ} قال: لم يكن في آل فرعون مؤمن غيره، وغير امرأة فرعون، وغير المؤمن الذي أنذر موسى الذي قال: {إِنَّ الملأ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ} [القصص: 20] قال ابن المنذر: أخبرت أن اسمه حزقيل.
وأخرج عبد بن حميد عن أبي إسحاق قال: اسمه حبيب.
وأخرج البخاري، وغيره من طريق عروة قال: قيل لعبد الله بن عمرو بن العاص: أخبرنا بأشدّ شيء صنعه المشركون برسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: «بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بفناء الكعبة إذ أقبل عقبة بن أبي معيط، فأخذ بمنكب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولوى ثوبه في عنقه، فخنقه خنقاً شديداً، فأقبل أبو بكر، فأخذ بمنكبيه، ودفعه عن النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قال: {أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَن يَقُولَ رَبّىَ الله وَقَدْ جَاءكُمْ بالبينات مِن رَّبّكُمْ}».
وأخرج أبو نعيم في فضائل الصحابة، والبزار عن عليّ بن أبي طالب، أنه قال: أيها الناس أخبروني من أشجع الناس؟ قالوا: أنت. قال: أما أني ما بارزت أحداً إلا انتصفت منه، ولكن أخبروني بأشجع الناس؟ قالوا: لا نعلم، فمن؟ قال: أبو بكر، رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخذته قريش، فهذا يجنبه، وهذا يتلتله، وهم يقولون: أنت الذي جعلت الآلهة إلاهاً واحداً، قال: فوالله ما دنا منا أحد إلا أبو بكر يضرب هذا، ويجيء هذا، ويتلتل هذا، وهو يقول: ويلكم {أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله}، ثم رفع بردة كانت عليه، فبكى حتى اخضلت لحيته، ثم قال: أنشدكم أمؤمن آل فرعون خير أم أبو بكر؟ فسكت القوم، فقال: ألا تجيبون؟، فوالله لساعة من أبي بكر خير من مثل مؤمن آل فرعون، وذاك رجل يكتم إيمانه، وهذا رجل أعلن إيمانه.

.تفسير الآيات (30- 40):

{وَقَالَ الَّذِي آَمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ (30) مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ (31) وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ (32) يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (33) وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ (34) الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آَيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آَمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ (35) وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ (36) أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ (37) وَقَالَ الَّذِي آَمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ (38) يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآَخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ (39) مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ (40)}
ثمّ كرّر ذلك الرجل المؤمن تذكيرهم، وحذرهم أن ينزل بهم ما نزل بمن قبلهم، فقال الله حاكياً عنه: {وَقَالَ الذي ءامَنَ ياقوم إِنّى أَخَافُ عَلَيْكُمْ مّثْلَ يَوْمِ الاحزاب} أي: مثل يوم عذاب الأمم الماضية الذين تحزبوا على أنبيائهم. وأفرد اليوم؛ لأن جمع الأحزاب قد أغنى عن جمعه، ثم فسر الأحزاب، فقال: {مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ والذين مِن بَعْدِهِمْ} أي: مثل حالهم في العذاب، أو مثل عادتهم في الإقامة على التكذيب، أو مثل جزاء ما كانوا عليه من الكفر، والتكذيب {وَمَا الله يُرِيدُ ظُلْماً لّلْعِبَادِ} أي: لا يعذبهم بغير ذنب، ونفي الإرادة للظلم يستلزم نفي الظلم بفحوى الخطاب. ثم زاد في الوعظ، والتذكير، فقال: {وياقوم إِنّى أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التناد} قرأ الجمهور: {التناد} بتخفيف الدال، وحذف الياء. والأصل التنادي، وهو: التفاعل من النداء، يقال: تنادى القوم، أي: نادى بعضهم بعضاً، وقرأ الحسن، وابن السميفع، ويعقوب، وابن كثير، ومجاهد بإثبات الياء على الأصل، وقرأ ابن عباس، والضحاك، وعكرمة بتشديد الدال. قال بعض أهل اللغة: هو: لحن، لأنه من ندّ يندّ: إذا مرّ على وجهه هارباً. قال النحاس: وهذا غلط، والقراءة حسنة على معنى التنافي. قال الضحاك: في معناه: أنهم إذا سمعوا بزفير جهنم ندّوا هرباً، فلا يأتون قطراً من أقطار الأرض إلا وجدوا صفوفاً من الملائكة، فيرجعون إلى المكان الذي كانوا فيه، فذلك قوله: {يَوْمَ التناد}، وعلى قراءة الجمهور المعنى: يوم ينادي بعضهم بعضاً، أو ينادي أهل النار أهل الجنة، وأهل الجنة أهل النار، أو ينادى فيه بسعادة السعداء، وشقاوة الأشقياء، أو يوم ينادي فيه كلّ أناس بإمامهم، ولا مانع من الحمل على جميع هذه المعاني، وقوله: {يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ} بدل من يوم التناد، أي: منصرفين عن الموقف إلى النار، أو فارّين منها. قال قتادة، ومقاتل: المعنى: إلى النار بعد الحساب، وجملة {مَا لَكُمْ مّنَ الله مِنْ عَاصِمٍ} في محل نصب على الحال، أي: ما لكم من يعصمكم من عذاب الله، ويمنعكم منه {وَمَن يُضْلِلِ الله فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} يهديه إلى طريق الرشاد.
ثم زاد في وعظهم، وتذكيرهم، فقال: {وَلَقَدْ جَاءكُمْ يُوسُفُ مِن قَبْلُ بالبينات} أي: يوسف بن يعقوب، والمعنى: أن يوسف بن يعقوب جاءهم بالمعجزات، والآيات الواضحات من قبل مجيء موسى إليهم، أي: جاء إلى آبائكم، فجعل المجيء إلى الآباء مجيئاً إلى الأبناء. وقيل: المراد بيوسف هنا: يوسف بن إفراثيم بن يوسف بن يعقوب، وكان أقام فيهم نبياً عشرين سنة.
وحكى النقاش، عن الضحاك: أن الله بعث إليهم رسولاً من الجنّ يقال له: يوسف، والأوّل أولى.
وقد قيل: إن فرعون موسى أدرك أيام يوسف بن يعقوب لطول عمره {فَمَا زِلْتُمْ في شَكّ مّمَّا جَاءكُمْ بِهِ} من البينات، ولم تؤمنوا به {حتى إِذَا هَلَكَ} يوسف {قُلْتُمْ لَن يَبْعَثَ الله مِن بَعْدِهِ رَسُولاً}، فكفروا به في حياته، وكفروا بمن بعده من الرسل بعد موته {كَذَلِكَ يُضِلُّ الله مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُّرْتَابٌ} أي: مثل ذلك الضلال الواضح يضلّ الله من هو مسرف في معاصي الله مستكثر منها مرتاب في دين الله شاكّ في وحدانيته، ووعده، ووعيده.
والموصول في قوله: {الذين يجادلون في ءايات الله} بدل من {من} والجمع باعتبار معناها، أو بيان لها، أو صفة، أو في محل نصب بإضمار أعني، أو خبر مبتدأ محذوف، أي: هم الذين، أو مبتدأ، وخبره يطبع، و{بِغَيْرِ سلطان} متعلق بيجادلون، أي: يجادلون في آيات الله بغير حجة واضحة، و{ءاتاهم} صفة لسلطان {كَبُرَ مَقْتاً عِندَ الله وَعِندَ الذين ءامَنُواْ} يحتمل أن يراد به التعجب، وأن يراد به الذمّ كبئس، وفاعل كبر ضمير يعود إلى الجدال المفهوم من يجادلون. وقيل: فاعله ضمير يعود إلى من في {مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ}، والأوّل أولى. وقوله: {عَندَ الله} متعلق بكبر، وكذلك {عِندَ الذين آمَنُواْ} قيل: هذا من كلام الرجل المؤمن. وقيل: ابتداء كلام من الله سبحانه: {كَذَلِكَ يَطْبَعُ الله على كُلّ قَلْبِ مُتَكَبّرٍ جَبَّارٍ} أي: كما طبع على قلوب هؤلاء المجادلين، فكذلك يطبع أي: يختم على كلّ قلب متكبر جبار. قرأ الجمهور بإضافة قلب إلى متكبر، واختار هذه القراءة أبو حاتم، وأبو عبيد، وفي الكلام حذف، وتقديره: كذلك يطبع الله على كلّ قلب كل متكبر، فحذف كلّ الثانية لدلالة الأولى عليها، والمعنى: أنه سبحانه يطبع على قلوب جميع المتكبرين الجبارين، وقرأ أبو عمرو، وابن محيصن، وابن ذكوان عن أهل الشام بتنوين قلب على أن متكبر صفة له، فيكون القلب مراداً به الجملة، لأن القلب هو: محل التكبر، وسائر الأعضاء تبع له في ذلك، وقرأ ابن مسعود على قلب كلّ متكبر.
ثم لما سمع فرعون هذا رجع إلى تكبره، وتجبره معرضاً عن الموعظة نافراً من قبولها، وقال: {ياهامان ابن لِى صَرْحاً} أي: قصراً مشيداً كما تقدّم بيان تفسيره {لَّعَلّى أَبْلُغُ الأسباب} أي: الطرق. قال قتادة، والزهري، والسدّي، والأخفش: هي: الأبواب. وقوله: {أسباب السموات} بيان للأسباب، لأن الشيء إذا أبهم، ثم فسر كان أوقع في النفوس، وأنشد الأخفش عند تفسيره للآية بيت زهير:
ومن هاب أسباب المنايا ينلنه ** ولو رام أسباب السماء بسلم

وقيل: أسباب السماوات: الأمور التي يستمسك بها {فَأَطَّلِعَ إلى إله موسى} قرأ الجمهور بالرفع عطفاً على أبلغ، فهو على هذا داخل في حيز الترجي.
وقرأ الأعرج، والسلمي، وعيسى بن عمر، وحفص بالنصب على جواب الأمر في قوله: {ابن لِى}، أو على جواب الترجي كما قال أبو عبيد، وغيره. قال النحاس: ومعنى النصب خلاف معنى الرفع، لأن معنى النصب: متى بلغت الأسباب اطلعت، ومعنى الرفع: لعلي أبلغ الأسباب، ولعلي أطلع بعد ذلك، وفي هذا دليل على أن فرعون كان بمكان من الجهل عظيم، وبمنزلة من فهم حقائق الأشياء سافلة جدًّا {وَإِنّى لأَظُنُّهُ كاذبا} أي: وإني لأظنّ موسى كاذباً في ادعائه بأن له إلاهاً، أو فيما يدّعيه من الرسالة {وكذلك زُيّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوء عَمَلِهِ} أي: ومثل ذلك التزيين زين الشيطان لفرعون سوء عمله من الشرك، والتكذيب فتمادى في الغيّ، واستمرّ على الطغيان {وَصُدَّ عَنِ السبيل} أي: سبيل الرشاد. قرأ الجمهور: {وصد} بفتح الصاد، والدال، أي: صدّ فرعون الناس عن السبيل، وقرأ الكوفيون: {وصد} بضم الصاد مبنياً للمفعول، واختار هذه القراءة أبو عبيد، وأبو حاتم، ولعلّ وجه الاختيار لها منهما كونها مطابقة لما أجمعوا عليه في زين من البناء للمفعول، وقرأ يحيى بن وثاب، وعلقمة: {صد} بكسر الصاد، وقرأ ابن أبي إسحاق، وعبد الرحمن بن أبي بكرة بفتح الصاد، وضمّ الدال منوّناً على أنه مصدر معطوف على سوء عمله أي: زين له الشيطان سوء العمل، والصدّ {وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلاَّ في تَبَابٍ} التباب: الخسار، والهلاك، ومنه {تَبَّتْ يَدَا أَبِى لَهَبٍ} [المسد: 1]، ثم إن ذلك الرجل المؤمن أعاد التذكير، والتحذير كما حكى الله عنه بقوله: {وَقَالَ الذي ءامَنَ ياقوم اتبعون أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرشاد} أي: اقتدوا بي في الدين أهدكم طريق الرشاد، وهو: الجنة. وقيل: هذا من قول موسى، والأوّل أولى. وقرأ معاذ بن جبل: {الرشاد} بتشديد الشين كما تقدّم قريباً في قول فرعون، ووقع في المصحف {اتبعون} بدون ياء، وكذلك قرأ أبو عمرو، ونافع بحذفها في الوقف، وإثباتها في الوصل، وقرأ يعقوب، وابن كثير بإثباتها وصلا، ووقفا، وقرأ الباقون بحذفها وصلا، ووقفا، فمن أثبتها فعلى ما هو الأصل، ومن حذفها، فلكونها حذفت في المصحف {ياقوم إِنَّمَا هذه الحياة الدنيا مَتَاعٌ} يتمتع بها أياماً، ثم تنقطع، وتزول {وَإِنَّ الأخرة هي دَارُ القرار} أي: الاستقرار لكونها دائمة لا تنقطع، ومستمرّة لا تزول {مَنْ عَمِلَ سَيّئَةً فَلاَ يجزى إِلاَّ مِثْلَهَا} أي: من عمل في دار الدنيا معصية من المعاصي كائنة ما كانت، فلا يجزى إلا مثلها، ولا يعذب إلا بقدرها، والظاهر شمول الآية لكل ما يطلق عليه اسم السيئة. وقيل: هي خاصة بالشرك، ولا وجه لذلك {وَمَنْ عَمِلَ صالحا مّن ذَكَرٍ أَوْ أنثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ} أي: من عمل عملاً صالحاً مع كونه مؤمناً بالله، وبما جاءت به رسله {فَأُوْلَئِكَ} الذين جمعوا بين العمل الصالح، والإيمان {يَدْخُلُونَ الجنة يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ} أي: بغير تقدير، ومحاسبة.
قال مقاتل: يقول: لا تبعة عليهم فيما يعطون في الجنة من الخير. وقيل: العمل الصالح، هو: لا إله إلا الله. قرأ الجمهور: {يدخلون} بفتح التحتية مبنياً للفاعل. وقرأ ابن كثير، وابن محيصن، وأبو عمرو، ويعقوب، وأبو بكر عن عاصم بضمها مبنياً للمفعول.
وقد أخرج ابن المنذر عن ابن عباس {مِثْلَ دَأْبِ} قال: مثل حال.
وأخرج عبد الرزاق، وعبد بن حميد عن قتادة {مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ} قال: هم الأحزاب: قوم نوح، وعاد، وثمود.
وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج في قوله: {وَلَقَدْ جَاءكُمْ يُوسُفُ مِن قَبْلُ بالبينات} قال: رؤيا يوسف، وفي قوله: {الذين يجادلون في ءايات الله} قال: يهود.
وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {إِلاَّ في تَبَابٍ} قال: خسران.
وأخرج عبد بن حميد عن مجاهد نحوه.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {ياقوم إِنَّمَا هذه الحياة الدنيا} قال: الدنيا جمعة من جمع الآخرة سبعة آلاف سنة.
وأخرج ابن مردويه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الحياة الدنيا متاع، وليس من متاعها شيء أفضل من المرأة الصالحة، التي إذا نظرت إليها سرّتك، وإذا غبت عنها حفظتك في نفسها، ومالها».